كان يا مكان، أن آل أبو القيعان، القاطنين خلف جدران ودهاليز وأنفاق؛ قد تم ترحيلهم عام 1952 بقرار من الاحتلال، من أراضيهم في شمال النقب، إلى قرية “خربة زبالة” للإقامة المؤقتة فيها، لكن إسرائيل غول يفترس الأرض ويلف المشانق حول رقابنا.
وتقول الرواية: بعد أربع سنوات على تهجير “آل أبو القيعان” الأول، يتم تهجير العائلة في عام 1956 للمرة الثانية بأوامر احتلالية جديدة، للإقامة في وادي “أم الحيران”. تبني العائلة بيوتها من الزينكو والصفيح، وتقوم بمدّ بعض خطوط الماء والكهرباء على حسابهم، لأن القرية التي دُفعوا إليها قسراً، بتشريع من قانون القوة، موسومة “بباركود” خاص، “القرى غير المعترف بها”، تُعاقَب بحرمانها من الموازنات وكافة الخدمات. وبالنتيجة تعددت التسميات: “القرى المدمرة” أو “غير المعترف بها” أو “أملاك الغائبين”، جميع المصطلحات السابقة لها معنى واحد، ولهدف واحد هو السيطرة على الأرض ومصادرتها.
ويُحكى أن القرية المؤلفة من بضع عشرات البيوت، تتخذ من اسم الوادي الذي تنام في بطنه اسماً لها. ويُقال: إن لكلٍ من اسمه نصيب، وللقرية من اسمها أكثر من نصيب، قرية حائرة في وادٍ سحيق، مهددة بالسحق والابتلاع في كل لحظة مجنونة.
التهجير الثالث للعائلة بدأ، السيناريو المبتذل المعروف، قرية فاقدة الشرعية القانونية، محكوم عليها الإعدام بالمقصلة وعلى أهلها الاقتلاع والتشريد. في الوجبة الأولى يُهدم عشرة منازل، وعلى قائمة الانتظار يقف خمسون بيتاً، فالقرار الاحتلالي العنصري حاسم ونهائي وغير قابل للتفاوض بشأنه.
“أم الحيران” قصة قرية فيها أكثر من غصة. فسوء طالعها شاء أن يتم تصنيفها ضمن القرى غير المعترَفُ بها، والقرى غير المعترف بها؛ قصة لها بداية دون نهاية، قصة أبدية لا متناهية، حكاية نكبة فلسطينية مستمرة؛ لا محدودة ولا نهائية، تنسج فصولها التطبيقية، بالجملة والمفرَّق. تبعاً للعقلية العنصرية ومزاجيتها المريضة.
كان يا مكان، خنق “أم الحيران” سبقها إليه “أم العراقيب”، جزء من تنفيذ مخطط “برافر” العنصري في النقب المسمى زوراً “تطوير” النقب، بينما هو في الحقيقة تجسيد للفكر الصهيوني الذي يعمل على اقتلاع الوجود الفلسطيني كجزء من منهجية التطهير العنصري الرافض للوجود الفلسطيني.
فما أشبه اليوم بالبارحة، فالواقع الذي يتسارع فيه تصعيد الاحتلال للسيطرة على الأرض ونفي الآخر بالقوة وبالقوانين العنصرية، يعيد إلى الأذهان مصطلحات التطوير التي استخدمت سابقاً لضم أراض الجليل وسميت زوراً بمشروع “تطوير الجليل”، ما أدى إلى اندلاع انتفاضة يوم الأرض المجيد.
عائلة “زليستر” التي تستوطن في الضفة الغربية، تنتظر على أبواب “أم الحيران” إجلاء عائلة “أبو القيعان”. لا مجال للبدائل، رفض “نتنياهو مقترحات اللجنة الشعبية للدفاع عن أم “الحيران”: إيجاد مكان آخر للعائلة اليهودية أو الإقامة المشتركة معهم في “أم الحيران”، رفض نتنياهو غير معزول عن مشروع الدولة اليهودية، ولا يتناسب مع جهوده في خلق البيئة المتناسبة مع مخططاته العنصرية. قال لهم: “ليس لكم مكان هنا”.
أم الحيران”، نُتَف من حلم الدولة اليهودية. قتل “يعقوب أبو القيعان”، قرارات هدم البيوت في فلسطين التاريخية، سن القوانين العنصرية، ترحيل ألف شخص من عائلة “أبو القيعان” إلى حيث ألقت، إلى مكان مؤقت وغير معترَفٌ به، وإحلال القادمين الجدد من مستوطنات الضفة الغربية، “عائلة “زليستر” المكونة من أربعة وعشرين فرداً مكانهم، تفضيل مد الكهرباء إلى مقبرة خاصة بالكلاب قرب القرية، جميعها تعبر عن سياسة ممنهجة أساسها الفكر العنصري الإجلائي ضد الفلسطيني لكونه فلسطيني، وهذا يؤكد أن الحرب على الشعب الفلسطيني هي حرب وجودية أساساً.
كان يا مكان، يُحكى أن العرب تقبلوا الهزائم والخسارات، وتطبعوا معها إلى درجة باتت جزءاً من حياتهم ونظامهم وثقافتهم. التفكير الانهزامي الاستخذائي جعل مشهد نكبتنا مستمرة الأشكال والألوان، وجعل المحتلون البرابرة يصولون ويجولون وينتهكون كل المحرمات والقوانين دون أن يرمش لهم جفن، لأنهم واثقون تمام الثقة أن أحداً لن ينتصر، من العرب، للفلسطينيين؛ فقد اختلط الحابل بالنابل في الوضعية العربية، بعد الدخول المبتذل في دوامة الحروب الأهلية المدمرة، والتسابق العلني على التطبيع مع العنصريين القتلة!؟
الدول العربية منشغلة بذاتها. تنأى بنفسها عن ادعاءاتها المتقادمة، أن فلسطين قضية العرب المركزية، وأنها قضية الحاضر والمستقبل العربي، فهل سيفهم الحكام العرب الذين يتسابق بعضهم علانية على التطبيع مع العنصريين والقتلة!؟
Leave a Reply
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.